بكلِّ تأكيد بعدَ فصل الشتاء القارس ، نحنُ كأمَّةٍ كرديَّةٍ ننتظرُ قدومَ الآلامِ و آمال الربيع الزاهرِ ، و عندَما يبدأ فصلُ الربيع معَ أمجاد آذار ، نلاحظُ أشياءَ كثيرةً ، و كذلكَ تعودُ بنا الأفكارُ إلى الماضي ، إلى تاريخ الشعب الكرديِّ ، و لا سيَّما حروب و نضالات آبائنا و أجدادنا في عهد الثورات و الانتفاضات التي قادَها بواسلُ هذهِ الأمة بكل فخرٍ و بسالةٍ ، و في رحابِ صدرها الأخضر المُلوَّنِ بدماء أبناء الشعب الكردي ، نستنشقُ نسائمَ الحريَّةِ من الانتصارات ، و يعزفُ الربيعُ ألحانَهُ الثوريةَ ، فنتساءلُ : ماذا يعني الربيعُ للشعب الكرديِّ ؟ و ماذا يعني آذارُ ؟ و لماذا نترقَّبُ مجيئَهما بعين حزينةٍ ، و قلبٍ مليءٍ بالأمل ، من أجل أن نحتضنَ معانيَ الحقيقية لهذَينِ الاسمين الجميلَين في حياة الشعب الكرديِّ ؟ ومن خلالهما تبدأ مسيرةُ المقاومة في بداية الربيع في الأول من آذار معَ نفحات نشيد الوطن (Barzanî tu na mirrî tu Serok û Rêberî )
كما يُقالُ : من قلب الألم يُولدُ الأملُ ، هُنا نُكملُ مشوارَ ربيع العمر للبدء بالتحدُّث عن قِنديلٍ من قناديل حياة الكُردِ ، و هو شخصيَّةٌ كرديَّةٌ بارزة ، رسّخَ حياتَهُ في سبيلِ حقوقِ شعبه ، فارسٌ مقاتلٌ ثارَ ضدَّ الظُلمِ و الطغيان ، ثائرٌ قادَ ثورةَ شعبٍ بأكمله ، وعلى عاتقهِ رسمَ النصرَ للشعب الكرديِّ دونَ أن يستسلمَ أو يفقدَ الأملَ بهذا الشعب المظلوم الذي ليسَ لهُ أصدقاء سوى الجبال ، إنَّهُ الجنرالُ المُلَّا مُصطفى البارزاني .
من مواليد قرية بارزان الصغيرة التابعة لقضاء ” ميركسور ” في محافظة أربيل التي عانتْ بما فيه الكفايةُ ، و تحمَّلَتْ ما لا تتحمَّلَهُ الجبالُ ، و احترقتْ عدَّةَ مرَّاتٍ ؛ بسبب نيران الثورات و لهيب الحروب ، كانَ العدوُّ ينظرُ إلى تلك القرية المُباركة بكلِّ عدوانية و شراسةٍ ؛ لأنَّهُ كانَ يرى فيها أصالةَ روح الكرداياتي ، و أيقونةَ كردستان القادمة، هُنا في هذه القرية الأثرية و الجميلة التي هي منبع الثورات الكُرديَّة الدينية ، تُؤدَّى فيها مراسيمُ السمعِ و الطاعة من مُريديها لمشايخها ، تلكَ المشيخةُ التي كانتْ داراً للعبادةِ و طلبِ العلم ، و لكنَّ هذه الديانة المباركة ، كانَ يتحوَّلُ دورُها تدريجيَّاً إلى دور سياسيٍّ و دور مُسلّحٍ ، فالمُريدونَ طالبو العِلمِ في المشيخة كانوا يتحوَّلونَ إلى جنود من قِبَلِ شيوخهم الذينَ تحوَّلوا بعد ذلكَ إلى ثوَّارٍ و قادَّةِ ثوراتٍ .
المُلَّا مُصطفى البارزانيُّ ذلكَ المُحاربُ المِغوارُ في سبيل حقوق شعبهِ ، وُلِدَ في ١٩٠٣/٣/١٤م ، و مرَّ بمراحل مختلفة في حياته ، فبعدَما خرجَ من المشيخةِ يحملُ اسمَهُ المُلَّا تحوَّلَ إلى ثائر ، ثمَّ إلى عسكريٍّ يحملُ لقبَ الجنرال ، اعتُقِلَ والدُهُ و هو رضيعٌ ، ثمَّ سُجِنَ سنةً كاملةً مع والدته ، و هو في الثالثة من عُمره في الموصل من قِبَلِ السلطات العثمانية آنذاكَ ، نشأَ في بيئةٍ دينيةٍ و وطنية ، و تربَّى على يَدَيْ أخيه الشيخ أحمد عبد السلام البارزانيِّ في منطقة بارزان ، وشاركَ أخاهُ الأكبرَ أحمد البارزانيّ في قيادة الحركة الثورية الكرديَّة للمطالبة بالحقوق القومية للأكراد ، و لكنْ تمَّ إخمادُ هذه الحركة من قِبَلِ السلطة الملكيَّة في العراق ، و القوات البريطانية المحتلَّة التي استخدمَتْ و لأول مرَّةٍ في التاريخ الأسلحةَ الكيميائيَّةَ ضدَّ المناطق التي سيطرَ عليها الثوَّارُ الكُردُ ، و هو والدُ رئيس إقليم كردستان العراق السابق مسعود البرزانيّ .
وفي عام ١٩٣٥م ، تمَّ نفيُ مُصطفى البارزانيّ إلى مدينة السليمانية مع أخيه أحمد البارزانيِّ .
وفي عام ١٩٤٢م ، هربَ البارزانيُّ من منطقة نفيهِ ليبدأَ حركتَهُ الثورية الثانية .
وفي إيرانَ و بدعم من الاتِّحاد السوفيتيِّ أقامَ الكردُ عام ١٩٤٦م أولَ جمهورية كردية في منطقة مهاباد ، و خدمَ الجنرالُ مُصطفى البارزانيّ كرئيس لأركان الجيش في جمهورية مهاباد ، و التي لم تدُمْ طويلًا ، فبعد (١١) شهراً من نشوئها تمَّ وأدُها من قِبَلِ الحكومة الإيرانية ، و ذلكَ بعدَ انسحاب القوات السوفيتية من شمالي إيران ، تحتَ ضغط القُوى الكُبرى التي تمركزَتْ قوَّاتُها جنوبَ إيران ، و كانتِ القوَّاتُ السوفيتيَّةُ قد دخلَتِ الأراضي الإيرانية إبَّانَ الحرب العالمية الثانية.
بعدَ انهيار جمهورية مهاباد ، توجَّهَ البارزانيّ إلى الاتِّحاد السوفييتي معَ (٥٠٠) من البيشمركة سيراً على الأقدام مُجتازينَ حدوداً جبليَّةً وعرةً في إيران و تركيا ، حيثُ واجهوا عقباتٍ كثيرةً في طريقهم وصولاً إلى الحدود الأذربيجانية السوفييتية ، و بقوا هَناك عشرَ سنواتٍ .
في عام ١٩٥٨م ، و معَ إعلان الجمهورية العراقية دعا الزعيمُ العراقي عبد الكريم قاسم البارزانيّ للعودة إلى العراق ، وبدأتْ مُناقشاتٌ حولَ إعطاء الكرد بعضَ مطالبهم القومية، و لكنَّ مطالبَ البارزاني والشعب الكرديّ لم تتطابقْ معَ ما كانَ في نيَّة الرئيس عبد الكريم قاسم إعطاءَهُ للكرد ، فأدَّى ذلكَ إلى تجدُّدِ الصراع مرَّةً أخرى ، حيثُ قامَ عبد الكريم قاسم بحِملةٍ عسكريَّةٍ على معاقل البارزانيِّ عام ١٩٦١م .
و بعدَ تولّي الرئيس العراقي عبد السلام عارف الحكمَ ، اتَّفقَ معَ عددٍ من القادة الكُرد السياسيينَ و العسكريينَ ، ومن ضمنهم الجنرالُ مُصطفى البارزانيّ على حلٍّ شاملٍ للقضية الكرديَّة ، حيثُ أعلنَ اتِّفاقَ نيسان عام ١٩٦٤م، و الذي تضمَّنَ منحَ الكُرد الحقوقَ الثقافيَّةَ ، و الإسهامَ في الحُكم ، و بعضَ الحُقوق الأخرى ، إلَّا أنَّ التيَّارَ القومي العربي تمكَّنَ من التسلُّلِ إلى السلطة ، ونسفَ كلَّ ما اتُّفِقَ عليه ، فاستمرَّتِ الدولةُ بإجراءاتها القمعية للشعب الكرديِّ ، فتجدَّدَ النزاعُ المسلَّحُ بينَ الطرفين ، وظلّتِ القضيَّةُ الكرديَّةُ تؤرِّقُ حكومةَ بغداد ، و البارزانيُّ يقضُّ مضجعَ القيادة العراقية .
بعد تسعِ سنواتٍ من الحرب بينَ الكرد بقيادة البارزانيِّ الخالد ، اضطرَّتِ الحكومةُ العراقيَّةُ إلى الاتِّفاقِ مع البارزانيِّ على الحُكم الذاتيِّ للأكراد عام ١٩٧٠م ، والذي لم يدُمْ طويلاً ؛ بسبب انقلاب قيادة حزب البعث على اتِّفاقية الحُكم الذاتي عام ١٩٧٤م ، و توقيعهم اتِّفاقيةً معَ شاه إيران ، تنازلَ بموجبها العراقُ عن شطِّ العرب ، و المطالبةِ بالأحواز مقابلَ توقُّفِ إيرانَ عن تقديم الدعم العسكري و اللوجستي للثوَّار الكُردِ ، حيثُ كانَ البارزانيّ مدعوماً من الشاه الإيراني مُحمَّد رضا بهلوي ، الذي قطعَ دعمَهُ للبارزاني عَقِبَ هذه الاتفاقية التي سُمِّيتْ باتفاقية الجزائر ، و التي أُبرِمَتْ بينَ إيران و العراق بمُبادرةٍ أمريكيَّةٍ جزائريَّةٍ ، و كانَ عرَّابُها وزيرُ الخارجية الجزائري آنذاكَ عبد العزيز بوتفليقة .
غادرَ بعدَها البارزانيّ إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، حيثُ توفِّي فيها عام ١٩٧٩م، في مستشفى جورج واشنطن إثرَ مرضٍ عُضالٍ .
و منذُ تلكَ اللحظة ، و إلى يومنا هذا لم يتوقَّفِ الشعبُ الكرديُّ عن المطالبة بحقوقهِ المشروعةِ ، وعن مسيرة القضية الكرديَّة يوماً ، بعدَ وفاة الجنرال المُلَّا مُصطفى البارزاني ؛ لأنَّ ثمارَ ثورتهِ و مسيرته النضاليَّةِ تثمرُ من آكري آرارات إلى مهاباد ، ومن مهاباد إلى نهر آراس ، ومن نهر آراس إلى ثورة أيلول ، ومن ثورة أيلول إلى الحُكم الذاتيِّ ، ومن الحُكم الذاتيِّ إلى انتفاضة الهجرة المليونيَّةِ ، و من انتفاضة عام ١٩٩١م إلى الفيدرالية ، و لا زالَ كفاحُهُ يُثمرُ كلَّ يوم بولادة جديدةٍ لدى الشعب الكرديِّ ، وخاصةً لدى أبنائه وأحفاده السياسيين و الدبلوماسسيين ، حيثُ استلمَ نجلُهُ الرئيسُ مسعود البارزانيُّ قيادةَ الثوراتِ و الحزب من بعده ، نجلُهُ البيشمركةُ الذي قالَ : حانَ الوقتُ لِنُحدِّدَ مصيرَنا ، و يجبُ ألَّا ننتظرَ لِيُحدِّدَهُ لنا الآخرونَ ؛ لأنَّ الشعبَ الكرديَّ يمتلكُ القوَّةَ من التاريخ ، و يستمدُّ العزيمةَ من صلابة الجبال، و يكتبُ ملاحمَ البطولة والفداء من رحمِ المُعاناةِ ، كما قالَها البارزانيّ الخالدُ : نحنُ أقوى من الجبال ، سنرجعُ و نثورُ و نصمُدُ معَ صُمودِ جبال كردستان ، فالكُردُ خُلِقَتْ أكتافُهم لحمل البنادق ، فإمَّا أحراراً فوقَ الأرض أو عُظماءَ تحتَها ، سيبقونَ مُتمسِّكينَ بأرضهم و وطنهم إلى الأزل ؛ لأنَّ الأمة الكرديَّة بشعبها و أبطالها البيشمركة على الاستعداد التام للتضحية بأرواحهم في سبيل قضيتهم العادلة ، وكما قالَ الرئيسُ مسعود البارزانيّ : الكُردُ يفضِّلونَ الموتَ و لا ينحنونَ لأحدٍ ، و قد تجسَّدَتْ طموحاتُ البيشمركة و دماء شهداء كردستان من خلال تضحياتهم و عطائهم قِيَمَ الولاءِ و الشهامة و حبّ الوطن ، إنَّ راية كردستان ستبقى خفَّاقةً شامخةً إلى الأبد .
نعم إنَّ أصدقَ تعبير عن احترامنا لتضحيات و بسالة أسود كردستان هي غرسُ قِيَمِ الوفاء و حبِّ الوطن في نفوس الأجيال القادمة ، كما غرسَتْها السيِّدةُ الأولى همايل محمود آغا الزيباري في قلوب و عقول أبناءها عندَ غياب زوجِها المُلَّا مُصطفى البارزانيّ لمدَّة اثني عشرَ عاماً ، لنواصل سويَّاً مسيرةَ البناء و حصدَ الإنجازات نحوَ كردستان الحرَّة المُستقلَّة .
ألفُ تحيَّةٍ ملؤها الوفاءُ والروحُ الوطنية إلى روح رمز الشعب الكرديِّ البارزاني الأب الذي لم يتنازلْ يوماً عن شبرٍ من أراضي كردستان المقدَّسة التي رُوِيَتْ بدماء الشهداء ، و بفضل وعيهِ الثاقب ، و فكره الواسع ، و نهجهِ العريقِ كرَّسَ مبادئَهُ القوميةَ على امتداد كردستان ، و استطاعَ أن يسجِّلَ اسمَهُ معَ العُظماءِ في تاريخ الشعب الكرديِّ و المحافل الدولية بأحرفٍ من النور .
نعم ، رحلَ البارزانيّ إلى الباري الأعلى ، و لكنَّهُ باقٍ في ضمير و عقول الشرفاء من أبناء و جماهير الأمة الكرديَّةِ .
كلُّ الاعتزاز و التقدير لتضحيات شُهدائنا البواسل ، و ننحني إجلالاً أمامَ بطولاتهم و مواقفهم المُشرِّفة في ساحات الشرف و الإِباءِ .
امل حسن